للأديب الإنجليزي أوسكار وايلد (توفي سنة 1900م) رواية أدبية رائعة أسماها “صورة دوريان غراي”.. تدور أحداث الرواية حول حياة شاب يدعى دوريان غراي، يتمتع بجمال خارق وجاذبية لا تخفى.
يرسم صورة هذا الشاب فنانٌ يدعى باسيل هالوارد، أصبح دوريان مفتونًا بجماله بعد رؤية الصورة. تحت تأثير اللورد هنري ووتون، صديق باسيل الذي يتبنى فلسفة المتعة، يتمنى دوريان أن يظل شابًا وجميلًا إلى الأبد، في حين تتقدم صورته في العمر!. وبالفعل، تم له ما أراد، وتحققت أمنيته. ينغمس دوريان في الملذات والشهوات والانحطاط الأخلاقي؛ فجسده ما يزال جسد شاب ذي رونق وجمال وبراءة وطُهر، لكن صورته تخبرك بقصة أخرى مناقضة للظاهر؛ فالجسد ضعيف وواهن، والأخلاق فاسدة، والأفعال خاطئة، والروح متعفنة.
صورت إسرائيل نفسها على أنها حمل وديع يعيش بين ذئاب، وهي – كما زعموا- الدولة “الديمقراطية” الوحيدة في المنطقة، وهي بعدُ دولة محبة وسلام
سعيًا وراء المتعة واللذة، يرتكب دوريان العديد من الحماقات والجرائم والسقطات الأخلاقية، ومنها قتله باسيل هالوارد، الذي صارحه بانحطاط أفعاله وتغير أخلاقه التي انعكست على صورته.. ومع مرور السنين، يصبح دوريان أكثر جنونًا وشعورًا بالذنب، لكنه يستمر في إخفاء الطبيعة الحقيقية للصورة. في النهاية، يكسر دوريان اللوحة فيقتل نفسه عن غير قصد، وعندما يجده خدمه، يكتشفون رجلًا ذابلًا مسنًا ملقى ميتًا أمام صورة دوريان غراي، الشاب الوسيم.
ذكرني العدوان الوحشي والمجازر اليومية التي ترتكب منذ عام تقريبًا في غزة، بهذه الرواية التي ما ظننت يومًا أنها ستغدو واقعًا مشاهدًا، وحقيقة ملموسة؛ لقد رأيت إسرائيل في صورة دوريان غراي، ورأيت الدول الغربية في شخصية باسيل هالوارد، ورأيت في بريطانيا شخصية اللورد هنري ووتون.. إن إقامة كيان صهيوني لليهود في أرض فلسطين هي خطيئة بريطانيا الأولى، وهي الإثم الأكبر الذي تبوء به وتنوء بحمله منذ أكثر من مئة عام، عندما أصدر بلفور وعده المشؤوم في 1917.
ومنذ إعلان قيام دولة إسرائيل سنة 1948م (عام النكبة)، لم ينقطع عنها شريان الدعم الغربي السياسي والعسكري والفكري والأخلاقي، وفي مقدمة الدول الداعمة تأتي الولايات المتحدة الأميركية.
ومع آلاف الانتهاكات التي مارستها هذه الدولة المحتلة بحق الفلسطينيين، منذ النكبة حتى “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، كانت دول الغرب بمفكّريها وساستها ومنظماتها لا تألو جهدًا في تقديم ما ينبغي من تأييدات وتبريرات، وكان الرأي الغربي العام إما مؤيدًا لإسرائيل، أو متعاطفًا معها، أو على الأقلّ ساكتًا.
ولطالما سعت إسرائيل منذ عقود – وبدعم غربي بالطبع- إلى تبييض وجهها وتلميع صورتها أمام العالم..
صوّرت إسرائيل نفسها على أنها حمل وديع يعيش بين ذئاب، وهي – كما زعموا – الدولة “الديمقراطية” الوحيدة في المنطقة، وهي بعدُ دولة محبة وسلام. وكانت – بين الفينة والأخرى – تنظم رحلات سياحية مجانية للأوروبيين والأميركيين لزيارة إسرائيل، رحلات تغسل فيها أدمغة السياح بالرواية الصهيونية التي تنادي بحق إسرائيل التاريخي في أرض الميعاد، هذا الحق الذي اغتصبه العرب والفلسطينيون الإرهابيون، المتوحشون. وبقي الترويج لهذه السردية قائمًا وفعالًا حتى جاء “طوفان الأقصى” وما تلاه من عدوان همجي على غزة، فكشف المستور، وهتك الحجاب، وبيّن الصبح لذي عينين.
هل بقي – بعد طوفان الأقصى – إنسان حر منصف يمكن أن يصدق أن بلاد الغرب وأميركا دعاة حضارة إنسانية؟!
فإذا بالأنظمة الغربية تنقلب على المبادئ والقيم التي كثيرًا ما روجت لها، من احترام الديمقراطية، والدعوة إلى حقوق الإنسان، واحترام حرية الرأي والتعبير، لتصل إلى ممارسة نفاق صارخ لا يخفى على عاقل منصف.
فمنذ “طوفان الأقصى”، قررت الحكومات الغربية وأذرعها الإعلامية الانحياز المطلق لإسرائيل، دون تمحيص وتدقيق لما تروجه الدعاية الإسرائيلية من أخبار ملفقة وروايات كاذبة، مثل المزاعم عن قطع رؤوس الأطفال، وذبح واغتصاب النساء الإسرائيليات؛ بغية تقديم إسرائيل على أنها ضحية، ولها “الحق في الدفاع عن نفسها” ضد حماس الإرهابية.
على سبيل المثال، تحدث المستشار الألماني أولاف شولتس عن الانتهاكات التي ارتكبها الجيش الروسي في أوكرانيا، وأكّد ضرورة محاسبة من ارتكبوا هذه الجرائم. أما بعد معركة “طوفان الأقصى”، فقد زار المستشار إسرائيل، وأكد دعم بلاده لها وأن من حقها أن تدافع عن نفسها، وحث أجهزة الأمن الألمانية على عدم التسامح مع أي تظاهرة تشهد تضامنًا مع القضية الفلسطينية.. أما عن جرائم إسرائيل بحق المدنيين، فلم يطاوع المستشارَ لسانُه أن يدينها ولو بكلمة.
هذا الانحياز دفع العديد من السياسيين والمفكرين والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي إلى تسليط الضوء على هذا النفاق المخزي؛ فقد أجروا مقارنات بين ما يجري وكيفية تعامل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مع مواقف مماثلة، مثل الحرب في أوكرانيا، إذ سارعوا إلى اتهام موسكو بارتكاب جرائم، وطالبوها بالالتزام بمعايير حقوق الإنسان واحترام القانون الدولي. أما في “طوفان الأقصى”، فتراهم يغضون الطرف عن الانتهاكات الإسرائيلية لتلك القوانين والمعايير.
وعندما اندلعت الاحتجاجات الطلابية ضد العدوان الإسرائيلي على غزة، التي انطلقت من الجامعات الأميركية، وامتدت إلى مختلف الدول الغربية، لم يسلم بعضها من القمع والتنكيل والحبس.
ففي الولايات المتحدة، واجهت الإدارة الأميركية وإدارات الجامعات الاحتجاجاتِ بالعنف والاعتقالات، والفصل التعسفي، وكيْل الاتهامات، مثل: “معاداة السامية”، ومناصرتها حماس، وغيرها. وقد ضمت هذه الاحتجاجات طلابًا من جميع الفئات والأعمار والأيديولوجيات. ولعل أخطر ما انطوت عليه الاحتجاجات هو مشاركة طلاب وأكاديميين يهود معارضين لجرائم الاحتلال، ما ينسف مزاعم معاداة السامية، والخوف من تكرار الهولوكوست.
مئات المجازر وآلاف الشهداء؛ معظمهم من النساء والأطفال، قتل المرضى والخدّج، سرقة أعضاء الشهداء وسلخ جلودهم، مقابر جماعية، إعدامات ميدانية، مجاعات وأمراض وأوبئة، انتهاكات جنسية بحق الأسرى الفلسطينيين، وتجويعهم وإهانتهم، واتخاذهم دروعًا بشرية، أكثر من 80 ألف طن من المتفجرات ألقيت على قطاع غزة.. وغير ذلك مما لا نعرف له مثيلًا في تاريخ الإجرام المعاصر.. كل هذه الكوارث الإنسانية تتم تحت سمع العالم وبصره، وبأسلحة أميركية وغربية.
إنّ سورة التوبة سُميت بالفاضحة؛ لأنها فضحت المنافقين، وأظهرت ما تنطوي عليه صدورهم من الحقد والعداوة للمؤمنين.. وكذلك غزة هي الفاضحة؛ لأنها فضحت جرائم هذا الكيان المغتصب الغاشم، وكشفت لأحرار العالم عن حقده الأسود، وممارساته النازية المقيتة بحق شعب أعزل، كل جريمته أنه يريد أن يعيش على أرضه بحرية وكرامة كسائر شعوب الأرض.. غزة هي الفاضحة؛ لأنها فضحت أكذوبة الديمقراطية الغربية، وهشاشة الحضارة الإنسانية، وخرافة ما يسمى “حقوق الإنسان”.
هل بقي – بعد طوفان الأقصى – إنسان حرّ منصف يمكن أن يصدق أن بلاد الغرب وأميركا دعاة حضارة إنسانية؟!. لقد تكشفت عورة الأنظمة الغربية أمام شعوبها، وتحطّمت على صخرة غزة الأبية جميع أوهام الحضارة الغربية.
أما عن حال أكثر الأنظمة العربية والإسلامية، فيكفيك أن تقرأ قول الشاعر:
لقد أسمعتَ لو ناديت حيًا .. ولكن لا حيـاة لمن تنادي
كل حديث في بلاد الغرب – بعد طوفان الأقصى – عن الحقوق والحريات والقيم والفضائل ما هو إلا أساطير الأولين
أعود إلى رواية “صورة دوريان غراي”؛ إن إسرائيل مثل دوريان غراي، ظهرت على حقيقتها في مرآة غزة، حيث بان وجهها القميء، وتركيبها المصطنع الهش.. وقد اقترب الوعد الحق في نهايتها.
كما قتل الشاب دوريان الفنانَ الذي رسمه.. باسيلَ هالوارد، كذلك قتلت إسرائيل الأنظمة الغربية الداعمة لها، حين كشفت بإجرامها في غزة الغطاءَ عن أنظمة ما برحت تمارس النفاق السياسي، وتتاجر بالأخلاق، وتزعم الريادة في حقوق الإنسان والحريات.. إنه قتل أخلاقي بامتياز!
إنّ كل حديث في بلاد الغرب – بعد طوفان الأقصى – عن الحقوق والحريات والقيم والفضائل، ما هو إلا أساطير الأولين، حديث خرافة يا أم عمرو!
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم .. فأقمْ عليهم مأتمًا وعويلًا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
ظهرت في الأصل على www.aljazeera.net